دراسات إسلامية

 

حكم الذبح الماكيني في الشريعة الإسلامية

بقلم: الشيخ أختر إمام عادل القاسمي (*)

التعريب: الشيخ نور عزيز القاسمي

 

 

بناءً على كثرة الذبائح راجت في الناس في الوقت الحاضر طريقة الذبح عن طريق الماكينات محل الذبح باليد. ونالت هذه الطريقة الحديثة للذبح قبولًا بين الناس توفيرًا للوقت وتحرّزًا من المشقة. ففي الذبح الماكيني بعض الأعمال يتعلق بآداب الذبح، والبعض الآخر يتعلّق بشروط الذبح وحدوده. ولهذا البعض الأخير علاقة بالذبح والمذبوح بطريق مباشر. ولكل واحد من النوعين أحكام مستقلة، فإن اختلّ شرط من شروط الذبح لم تحلّ الذبيحة؛ ولكن لو توفّرت تلك الشروط، ولكن الذابح لم يقم بمراعاة جميع الآداب لحلّت الذبيحة، غير أن هذا العمل يكون مكروهًا.

مشكلات شروط الذبح:

     هناك في أمر الذبيحة شرطان أساسيان يجب تحققهما، فإن تحقّقا فلا شك في حلّ الذبيحة.

     1- الشرط الأول هو: التسمية. أعني أنه على من تجب التسمية في الذبح الماكيني؟ وبتسمية من تحلّ الذبيحة؟

     2- والشرط الثاني هو: إنهار الدم وإسالته، وهو أن يتمّ قطع أيّ ثلاثة من العروق الأربعة في الرقبة وهي الحلقوم والمريء والودجان وهل يمكن أن يتحقّق ذلك في الذبح الماكيني؟

مسألة التسمية:

     فليس من الصعب تحقّق التسمية من المنظور الفقهي، فمن الممكن أن نتغلّب عليها بسهولة.

     لاخلاف في أنّ التسمية واجبة على كل من الذابح ومعينه، ولكن من يُجعل ذابحًا في الذبح الماكيني؟ و يمكن أن نجيب أن الماكينة هي العلة الفاعلية في الذبح الماكيني. وهي التي تقوم بعملية الذبح في الأصل.

     أما الذي يحرّك الماكينة أو الذي يقوم بإيصال الحيوان إلى السكين فهما سببان. ولكن ليس سببًا محضًا؛ بل سببًا في معنى العلة.

     أقسام السبب: ينقسم السبب عند الفقهاء إلى أقسام:

     (1) السبب المحض: وهو سبب يفضي العلة إلى الحكم لاغير، وهو لا يؤثّر في الحكم ولايثبت به كدلالة السارق إلى أن المال في بيت فلان والحكم لا يضاف إلى السبب المحض، ولذلك لو سرق السارق المال من بيت فلان لا يضمن الدال عليه بشرط أن لايشارك في عمل السرقة.

     (2) السبب في معنى العلة: وقد يكون السبب بمعنى العلة، وهو سبب لا يفضي العلة إلى الحكم فحسب؛ بل يكون له دخل كبير في العمل والتاثير، بحيث تكون العلة حادثة بذلك السبب، فهو كعلّة العلة فيضاف الحكم إليه، مثلًا: لزوم حق في الخصومات يكون بقضاء القاضي، ولكن قضاء القاضي يتوقف على شهادة الشهود، وهذا القسم من السبب يضاف الحكم إليه دون العلة، وبناءً على ذلك لو ظهر خطأ قضاء القاضي في قضية بسبب بطلان الشهادة ضمن الشاهدان لا القاضي.

     (3) السبب الذي يقوم مقام العلة: ثم السبب قد يقام مقام العلة عند تعذر الاطلاع على حقيقة العلة تيسيرًا للأمر على المكلف، ويسقط به اعتبار العلة، ويدار الحكم على السبب، لما في تكليف العمل بحقيقة العلة من الحرج، فلذا سقط اعتبار العلة لتعليق الحكم ويُدار الحكم على السبب، مثاله في الشرعيات: النوم الكامل وهو ناقض للوضوء ولكن العلة - في الأصل- لانتقاض الوضوء ليس النوم؛ بل هوالحدث، والنوم سببه، وبما أن الاطلاع على الحدث في حالة النوم متعذّر، أقيم النوم الذي هو سبب الحدث مقامه، فلذا سقط اعتبار الحدث ويُدار الانتقاض على كمال النوم، سواء وجد الحدث أم لا؟.

     (4) السبب المجازي: وهذا في الحقيقة ليس بسبب؛ لأن السبب يفضي إلى الحكم. وهذا لا يفضي إلى الحكم كاليمين سببًا للكفارة وإنها ليست بسبب لها في الحقيقة؛ فإن السبب لاينافي وجود المسبب، واليمين في وجود الكفارة؛ فإن الكفارة إنما تجب بالحنث وبه ينتهي اليمين (راجع أصول الشاشي، ص:96-97، نور الأنوار، ص:75-274، حسامي، ص:125).

     فإذا نظرنا في مسألة الذبح الماكيني في ضوء هذه الأقسام للسبب تبيّن أنّ الذي يحرّك الماكينة والذي يقوم بإيصال الحيوان إلى السكين ليساعلةً حقيقية باليقين ولكنهما سبب، ولكن ليس السبب المحض؛ لأنه ليس محرّك الماكينة والذي يوصل الحيوان إلى السكين ممن لا دخل له في عملية الذبح؛ بل هو الذي يوجد حركة الماكينة، فهو بذلك في معنى علة العلة، والعلة مع علة العلة إذا اجتمعتا يضاف الحكم إلى العلة، و العلة هنا هي الماكينة وهي جماد فلا تصلح أن تكلّف أحكام الذبح، لذا يُضاف أحكام الذبح إلى الذي يحرك الماكينة، وتكون الماكينة كآلة له، وبناءً على ذلك ينبغي أن تجب التسمية كذابح للذبيح الأول على الذي يحرّك الماكينة، وكمعين الذابح على الذي يوصل الحيوان إلى السكين.

     ولكن بعد هذه المرحلة عندما انتهى محرّك الماكينة من عمله، والحيوانات التي تأتي أمام السكين بعد الذبيحة الأولى لادخل في ذبحها لمحرك الماكينة بقاءً وإن كان مؤثرًا فيه ابتداء، ولكن انقطع عمله بالكلية بقاءً، والماكينة عملها وإن كان متواصلًا، ولكنه ليس متحدًا؛ بل يتعدّد بتعدّد الذبيحة. لذا ينبغي أن يضاف حكم الذبح إلى شخص يكون له دخل في عملية الذبح في درجة، فحينئذ يأخذ الذي يقوم بإيصال الحيوان إلى السكين حكم القسم الثالث من السبب، وتظهر صورة المسألة بأنها تجتمع فيها السبب مع العلة، ولكن لايمكن في هذه الصورة أن نضيف الحكم إلى الماكينة التي هي علة الذبح؛ لكونهاجمادًا وغير مكلّفة، بل يضاف الحكم إلى الشخص الذي يقوم بإيصال الحيوان إلى السكين بناءً على كونه سببًا يقوم مقام العلة، فتجب عليه التسمية للذبح على حدة.

     ومن جهة أخرى إذا أمعنا النظر في القضية وجدنا أن عملية الذبح بالماكينة لا تتحقق مالم يوصل شخص الحيوان إلى السكين، فالماكينة تحتاج في كونها علة للذبح إلى مساعد، والمساعد هو الذي يوصل الحيوان إلى السكين. وبهذا الاعتبار يأخذ حكم القسم الثاني من السبب بدلًا من القسم الثالث، وبناءً على كونه سببًا في معنى العلة تجب عليه التسمية كذابح أو معينه، وهو في ذلك كرجل ينصب السكين في موضع خاص ويقوم بإمرار رقبة الحيوان على حدّ السكين بدل أن يأخذ السكين بيده، ويقوم بإمراره على حلقوم الحيوان، ويقطع جميع عروق رقبته، ففي هذه الصورة كما أن الذابح الحقيقي يذهب بالحيوان إلى السكين ويقطع رقبته بإمرار رقبته على حد السكين، كذلك في الصورة التي يتحرك فيها السكين الماكيني متواصلا، ويقوم شخص بإيصال الحيوان إلى السكين ويقطع السكين جميع العروق التي لابد من قطعها في الذبح، فينبغي في هذه الصورة أن يجري حكم الذابح على الشخص المذكور، فتحلّ الذبيحة بتسميته.

     ونجد نظائر هذه المسألة عند الفقهاء المتقدمين حيث إنهم يعتبرون بعمل الموجد الأصلي للعمل في باب أحكام الذبح، ولا يعتبرون بالآلة التي استخدمها الذابح، ولا يضيفون حكم الذبح إليها. نجد في كتاب «الأم» للإمام الشافعي رحمه الله عبارة مفيدة بهذا الخصوص، يقول:

     «ولا بأس أن يصيد المسلم بكلب المجوسي ولا يجوز أكل ما صاد المجوسي بكلب مسلم؛ لأن الحكم حكم المرسل، وإنما الكلب أداة». (كتاب الأم: 1/282).

     ومثل ذلك في «فقه السنة» (3/34).

     ففي هذه الجزئية حصل الإذن للمسلم أن يصيد بكلب مجوسي، في حين لا يحلّ ما صاد المجوسي بكلب مسلم، ووجه ذلك أن الكلب أداة محضة لايعتبربها، وإنما الاعتبار بالذي تسبّب في عملية الذبح، وليست المسألة هنا مسألة الذبح الاختياري أو الاضطراري، وإنما أريد أن أثبت بذلك أن الأداة في باب الذبح لو كانت جمادًا أو غير مكلّفة لا ينسب إليها حكم الذبح؛ بل إلى السبب الذي باشر عمل الذبح بتلك الأداة.

     وكذلك الماكينة في الذبح الماكيني أداة محضة تتوسّط بين الذابح والذبح واستخدامها من عمل الذي يحرّك الماكينة أو الذي يوصل الحيوان إلى السكين، وبناءً على ذلك لا تكون الماكينة ذابحًا، بل يجعل الذابح الشخص الذي يحرك الماكينة أو الذي يوصل الحيوان إلى السكين. فتجب التسمية على محرّك الماكينة كذابح وعلى الذي يوصل الحيوان إلى السكين كمعين الذابح، ولكن بعد الذبيحة الأولى حيث ينقطع عمل محرك الماكينة عن الذبح، لا تجب التسمية إلّا على الذي يقوم بضبط الحيوان وإيصاله إلى السكين.

     وقد أباح فضيلة المفتي نظام الدين رحمه الله مفتي الجامعة الإسلامية دارالعلوم ديوبند الذبح الماكيني بإدارة الحكم على من يحرك الماكينة والذي يضبط الحيوان يوصله إلى السكين. (راجع نظام الفتاوى، ص:240).

     ولا يعتبر في ذلك تسمية الشخص الذي يُسمّي قائما على كل حيوان يمرّ بالسكين ولا تسمية الشخص الذي يضع يده على مقبض الماكينة؛ لأنه لا دخل لهما في عملية الذبح، وإنما تعتبر في الذبح تسمية الذابح لا الذي ليس له علاقة بالذبح.

     (2) مسألة إنهار الدم: والمسألة الثانية من المسائل الهامة في الذبح الماكيني هي مسألة إنهار الدم وإسالته جيدا بقطع جميع عروق الذبيح أو أكثره. وقد استغربت كثيرًا مما جاء في التقرير الذي أعدّته هيئة الفتوى لدولة «الكويت» في هذا الخصوص. فقد جاء فيه: «إنه ليس من الضروري أن يقطع سكين الماكينة رقبة الذبيح؛ بل الواجب أن يقطع أيّ جزء من جسده، فقد يقطع الرأس شقين مكان الرقبة، ويموت الحيوان من شدة الألم». فلو كان ذلك هو الغالب في الذبح الماكيني فلا يُعقل جواز الذبح الماكيني في حال من الأحوال؛ لأن الذبيحة لا تحلّ بالعقر وإصابة الجرح في أيّ مكان من جسده إلّا في الذبح الاضطراري. أما في الذبح الاختياري فيشترط إمرار السكين على الرقبة وقطع العروق باتفاق العلماء. والذبح الذي يتمّ عن طريق الماكينة هو الذبح الاختياري؛ لأن الذي يتولّى تحريك الماكينة له قدرة كاملة عليها يحرّكها متى شاء ويوقفها متى شاء، والذبح الذي عليه مدار الحكم بالاخيتار أو الاضطرار يكون كذلك مقدورًا عليه، فلا يجوز قياس الماكينة على السهم والقوس، ولا أن نحكم عليه بالذبح الاضطراري.

     جملة القول أنه إذا كان الغالب في الذبح الماكيني قطع جميع عروق الرقبة للحيوان المذبوح أو أكثرها قبل أن يموت فإنه يُفتى بجوازه تبعا للغالب الأكثر، وإذا كان الغالب أن السكين يقطع أيّ جزء من بدنه بدلًا من الرقبة، ولا يتحقّق قطع أكثر العروق للذبيح قبل موته، ولا يتمّ إنهار الدم بطريق جيد فلا يحكم بجوازه.

     آداب الذبح: هناك أمور تتعلّق بآداب الذبح، فلا تحرم الذبيحة بعدم مراعاتها إلّا أنه يُكره، ولكن الكراهة لا تنتقل إلى اللحم.

     (1) مثلا: المقصود من الذبح هو قطع اللبة التي هي مجمع العروق، سواء قطعت من الأعلى أو من الأسفل، أو تقطع بالشق (كما قد يكون في الذبح الماكيني) فلو تمّ إنهار الدم بالكلية حلّت الذبيحة. ولو كان فيه زياده إيلام للحيوان يكون ذلك مكروهًا من غير حاجة. (راجع الفتاوى الهندية: 5/288).

     (2) ومن بلغ بالسكين النخاع، أو قطع الرأس كره له ذلك وتؤكل ذبيحته.

     وهذا لأن في جميع ذلك وفي قطع الرأس زيادة تعذيب الحيوان بلا فائدة، وهو منهيّ عنه، والحاصل أن ما فيه زيادة إيلام لا يحتاج إليه في الذكاة مكروه. (الهداية: 4/39-438).

     (3) في الذبح الماكيني يُصعق الحيوان بتيار كهربائي قبل الذبح ليمكن السيطرة عليه أثناء الذبح. ففي هذه الصورة إذا كان الحيوان يفقد وعيه فقط ولايموت قبل الذبح فلا يؤثر ذلك فيحلّ الذبيح، بل يحلّ من غير شك إلّا أنه إذا وجدت هناك صورة للسيطرة على الحيوان أثناء الذبح أيسر من هذه وأقل إيلامًا للحيوان فإنه يكره ذلك. أما إذا لم توجد صورة غيرها فلا بأس بها.

     الأصل في ذلك أن اختيار أيّ طريق يتسبّب في إيلام الحيوان عند الذبح ممنوع شرعًا. حتى إن النبي –صلى الله عليه وسلم- نهى عن وضع السكين أمام الحيوان وأمر بمواراته عنه فعن ابن عمر رضي الله عنهما-: أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- بحدّ الشفار وأن توارى عن البهائم، قال: «إذا ذبح أحدكم فليجهّز» (جمع الفوائد، ص:206).

     فلابد من مراعاة تلك الآداب السامية التي صدرت عن النبي –صلى الله عليه وسلم-.

     (4) في الذبح الماكيني قد يفوَّض الحيوان بعد الذبح باليد إلى الماكينة. حتى يمرّ على بقية المراحل من النتف والتنظيف، والسلخ والقطع والتغليف وما إلى ذلك، فلا بأس بذلك. ولكن لا يغيبنّ عن البال أنه لا يُدخل الذبيح في الماكينة قبل أن يبرد؛ لأن في ذلك زيادة إيلام للحيوان، وهو مكروه عند الفقهاء من غير حاجة.

     ويكره له بعد الذبح قبل أن تبرد أن ينخعها وهو أن ينحرها حتى يبلغ النخاع، وأن يسلخها قبل أن تبرد. (الفتاوى الهندية:5/287، البحرالرائق:8/170).

* * *



(*)          مؤسس ومدير الجامعة الربانية بسمستي فور، ولاية بيهار (الهند)

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رجب 1437 هـ = أبريل – مايو 2016م ، العدد : 7 ، السنة : 40